المذاهب الإسلامية
بين حقائق الدين ومواقف التاريخ وتحديات المصير
للدكتور عباس الجراري
درس حسني ألقي عشية الخميس 23 رمضان 1415ه الموافق 23 فبراير
1995
والصلاة والسلام
على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة وأزكى التسليم،ولا حول ولا قوة إلا
بالله العلي العظيم، سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.
رب اشرح لي صدري وييسر لي أمري واحلل عقدة من لساني.
مولاي أمير المومنين،
بمشاعر فياضة تغمر القلب بالحب والوفاء والإكبار والولاء لجلالتكم،
وسعيا إلى مواكبة جنابكم الشريف في الرؤيا البعيدة التي تنظرون بها إلى واقع الأمة
الإسلامية ومستقبلها في أفق التطوير والتجديد والتوحيد، أستأذنكم سيدي - أعزكم
الله -في أن أتناول موضوعا أعترف منذ البدء بأنه شائك،وبأني ما كنت لأجرؤ على
بسطه في هذا المجلس العلمي الموقر وبحضرتكم السنية، لولا يقيني في سعة علمكم ،
ورحابة صدركم، وأملي في أن يحظى من جلالتكم بالرضى والقبول والتجاوز عما قد أجانب
الصواب فيه.
وقد صغت
الموضوع في العنوان الآتي:
بين
حقائق الدين ومواقف التاريخ وتحديات المصير
على
أن أحلله انطلاقا من قول الله تعالى:"ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا
الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم
تومنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تاويلا."
فإذا سمحتم لي - يا مولاي- تناولته وجعلته في ثلاثة أقسام:
في
الأول
أتحدث عن الآية الكريمة التي سأنطلق منها وبعض متعلقاتها.
وفي
الثالث
أعرض إمكان تجاوز هذا الخلاف، وحاجة المسلمين إلى هذا التجاوز وهم يواجهون تحديات
المصير.
يقول الله تعالى:"ياأيها الذين آمنوا
أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تومنون
بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تاويلا".
هذه هي الآية 58 من سورة النساء.
وهي سورة طويلة، إذ تضم 175 آية حسب رواية
ورش، و176 وفق رواية حفص؛ وترتب بذلك في الدرجة الثالثة من حيث الطول بعد البقرة ب285
آية، وآل عمران ب200 آية. وهي على هذا الترتيب في إيرادها بالمصحف.
وتتضمن كثيرا من الأحكام الشرعية المتعلقة
بالمرأة ، وهي أهمها، ولهذا سميت سورة النساء. وتتضمن كذلك أحكاما متصلة بالأسرة
والروابط الزوجية والمواريث، وأخرى مرتبطة بالدولة الإسلامية في علاقاتها مع غيرها
والأسس التي تقوم عليها هذه العلاقات.ومن ثم فإن السورة تتعرض للجهاد والموقف من
المنافقين وأهل الكتاب.
وقد أجمع العلماء – أو كادوا- على أن هذه
السورة مدنية، إلا قوله تعالى في الآية 57 وهي السابقة على الآية التي نحن
بصددها:"إن الله يامركم أن تودوا الامانات إلى أهلها".وهي آية نزلت
متعلقة -كما في أغلب الروايات – بمفتاح الكعبة حين أخذه الرسول ص يوم الفتح من
عثمان بن أبي طلحة الحجبي العبدري (من بني عبد الدار) ومن ابن عمه شيبة بن عثمان
بن أبي طلحة،وكانا كافرين،وأراد أن يسلمه لعمه العباس بن عبد المطلب ، فما كان
يدخل الكعبة ليكسر ما بها من أوثان ويخرج إلى مقام إبراهيم حتى نزلت هذه الآية. وساعتئذ
قال عمر بن الخطاب :"خرج رسول الله (أي من الكعبة) وهو يقرأ هذه الآية وما
كنت سمعتها قبل منه،فدعا عثمان وشيبة وقال :"خذاها خالدة تالدة لا ينزعها
منكم إلا ظالم".
وقد ورد في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله
عنها أنها قالت:"ما نزلت سورة النساء إلا وأنا عند رسول الله ص"تقصد أنه
تزوجها، وهو ما تم في المدينة .
وقد ذهب أبو بكر محمد بن الحسن النقاش إلى
أنها نزلت عند هجرة النبي ص من مكة إلى المدينة. وقد ظن بعض المفسرين كأحمد بن
محمد النحاس أنها سورة مكية لافتتاحها بقوله تعالى:"يا أيها الناس اتقوا ربكم
الذي خلقكم"على اعتبار أن معظم ما ورد فيه الخطاب موجها للناس فهو مكي. وهذا
غير مطرد؛ ففي سورة البقرة وهي مدنية وردت (يا أيها الناس) في آيتين اثنتين:
1) "يا أيها الناس
اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون" (الآية 20).
2)
"يا أيها الناس كلوا مما في الارض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات
الشيطان إنه لكم عدو مبين"( الآية167).
وعند آخرين كعلقمة أن صدر السورة مكي. ولكن الراجح أن
السورة مدنية كما سبقت الإشارة إلى ذلك.
وفي كتاب التفسير من صحيح البخاري عن سعيد بن جبير عن
ابن عباس لدا تفسير الآية التي نحن بصددها أنها نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس
بن عدي، إذ بعثه النبي ص في سرية. ويذكر أنه كان في عبد الله بن حذافة دعابة، وحين
أمره رسول الله ص على سرية أمر الناس أن يجمعوا حطبا ويوقدوا نارا ثم أمرهم
بالتقحم فيها فامتنعوا، فذكرهم بآية الطاعة فقالوا:"ما آمنا بالله واتبعنا
رسوله إلا لننجو من النار".وحين علم رسول الله ص بذلك وافقهم على رأيهم وقال
كما في الحديث الصحيح:"لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"قال تعالى
"ولا تقتلوا أنفسكم".وهي الآية 29 من سورة النساء نفسها.
وروى الطبري عن السدي أنها نزلت في قصة جرت لعمار بن
ياسر مع خالد بن الوليد، وكان خالد أميرا فأجار عمار رجلا بغير أمره، فتخاصما
ورفعا القضية إلى النبي ص فأجاز أمان عمار ونهاه أن يجير مرة ثانية على أمير.
والمراد
واحد سواء بالنسبة لهذه الرواية أو تلك.
ماذا
يمكن أن نقول عن مضمون هذه الآية؟ أن فيها أمرين:
الأول : الأمر بطاعة الله والرسول ص
وأولي الأمر.وجاء هذا الأمر مباشرة بعد أمر الله تعالى في الآية السابقة ولاة
الأمر ورعاة المسؤولية أن يؤدوا الأمانة وأن يحكموا بالعدل.(إن الله يامركم أن
تؤدوا الامانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل).
والربط
بين الطاعة والعدل ناتج عن كون الطاعة دالة على أن العدل قد تحقق ونفذ وطبق
وانتشر.
والمقصود
بأولي الأمر هم الأمراء والقائمون
على مصالح الرعية. فقد روى الطبري عن أبي هريرة بسند صحيح " إ ن أولي الأمر
هم الأمراء"والمقصود بلفظ الأمراء من يؤمرون،ومن ينبغي أن تنقاد الأمة لأمرهم
من الحكام والعلماء. ولأهمية ذلك جعلت طاعتهم مرتبطة بطاعة الله ورسوله.
أخرج
البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله
ص قال:"من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن أطاع أميري
فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني".
وعند
ابن عباس ومجاهد وغيرهما أن لفظ أولي الأمر يشمل أهل القرآن والفقه والدين،أي
علماء الأمة؛ وهو اختيار الإمام مالك، بدليل قوله تعالى في الآية 65 من سورة
المائدة:"لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الاثم وأكلهم السحت، لبيس
ما كانوا يصنعون". وقوله عز وجل في الآية 7 من سورة الحشر(وما آتاكم الرسول
فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا).
وعند
الرازي أن المقصود بأولي الأمر هو إجماع الأمة،مما يجعل في الآية إشارة إلى هذا
الأصل، إلى جانب الأصول الأخرى في استنباط الأحكام.
وذكر
الزمخشري أن المقصود هم أمراء الحق، لأنهم هم الذين يعطفون على الله ورسوله في
وجوب الطاعة لهم. أما غيرهم من أمراء الجور فلا طاعة لهم. وهذا واضح يؤكده ما رواه
الشيخان عن علي بن أبي طالب من أن رسول الله ص قال: "إنما الطاعة في
المعروف"، ويؤكده كذلك ما أخرجه ابن حنبل في مسنده عن عمران بن حصين من أن
النبي ص قال:"لا طاعة في معصية الله".
وقال
ابن أبي طالب كذلك:"حق على الإمام أن يحكم بالعدل ويؤدي الأمانة، فإذا فعل
ذلك فحق على الرعية أن يسمعوا ويطيعوا".
قال
سهل بن عبد الله – كما ساق القرطبي في تفسير الآية-:"لا يزال الناس بخير ما
عظموا السلطان والعلماء، فإذا عظموا هذين أصلح الله دنياهم وأخراهم وإذا استخفوا
بهذين أفسد دنياهم وأخراهم".
ويروى:
"صنفان إذا صلحا صلح الناس وإذا فسدا فسد الناس: الأمراء والعلماء".
الأمر الثاني
هو رد كل تنازع حول ما يتعلق
بأصول الدين وفروعه وما يتعلق بهما من شؤون الناس، والتحاكم في ذلك كله إلى الله
ورسوله. ورد التنازع إلى الله والرسول، أي إلى الكتاب والسنة، باعتبارهما الأصل،
وباعتبار ما جاءا به هو الحق، مصداقا لقوله تعالى في الآية 8 من سورة
الشورى:"وما اختلفتم فيه من شيىء فحكمه إلى الله" .
وربطت الآية الاحتكام إلى الكتاب والسنة
بالإيمان بالله واليوم الآخر، "إن كنتم تومنون بالله واليوم الآخر،"
وجعلته خيرا وأحسن تاويلا"، أي أصلح وأجدى وأنفع سواء في الدنيا أو الآخرة.
وهنا يرد ما قد يفهم من أن رد الأمر إلى
الله ورسوله هو السكوت عنه وعدم
التعرض له، لأنه فهم يتنافى مع الانقياد وما يقتضي من وضوح في المسائل وحل للمشاكل.
ويلحق بهذا الفهم قول من ذهب إلى الرد ب: الله ورسوله أعلم.
في هذه الآية يا مولاي إشارات لغوية وأسلوبية أستسمح في
ذكر بعضها:
الإشارة
الأولى:
إعادة فعل (أطيعوا)
لماذا أعيد هذا الفعل في غير اكتفاء بحرف
العطف، إذ لم ترد الآية على هذا النحو(أطيعوا الله والرسول)؟
وقع هذا التكرار لغايات منها:
1. تأكيد وجوب طاعته ص.
2. إبراز مدى الأهمية
التي لطاعة الرسول.
3. جعلها أعلى مكانة من
طاعة أولي الأمر.
4. حتى لا يظن أن طاعة
الرسول إنما هي راجعة إلى طاعة الله، أي فيما يامر به الرسول مما هو مطالب بتبليغه
وليس في امتثال أمره كله، أي فيما يتعلق بشؤون الدنيا والدين.
5. ويمكن أن نضيف غاية
أخرى، وهي أن رسول الله ص يقوم بدور التبليغ والتنفيذ، أما أولو الأمر فدورهم
مقصور على التنفيذ.
ويلاحظ
أنه حين لم يعطف أولو الأمر في آيات أخرى، لم يكرر
الفعل،
كقوله تعالى في الآية 32 من سورة آل عمران(قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن
الله لا يحب الكافرين)،وكقوله عز وجل في الآية 132 من نفس السورة:"وأطيعوا
الله والرسول لعلكم ترحمون).
الإشارة
الثانية:
تتعلق بقوله"تنازعتم".
وهو
فعل ماض من التنازع. ومعناه في الأصل التجاذب من الجذب.
ومن
معانيه المنبثقة من هذا المعنى الأصلي:
أولا:المعاطاة، وتكون في
الشرب ونحوه مما يتبادل. يقول الله تعالى في الآية 21 من سورة
الطور:"يتنازعون فيها كأسا لا لغوٌ فيها ولا تاثيم"
ومنه قول ميمون بن قيس الملقب بالأعشى:
نازعتُهم قضب الريحان متكئا
وقهوة
مُزة راووقُها خَضِل
أي
عاطيتهم طاقات المشموم الطيب من النبات والأزهار،وخمرا بها مَزازة أي طعمها بين
الحلاوة والحموضة، وراووقها-أي مصفاتها من روّق الشراب إذا صفاه- خضِل أي ندي
مبلول، من الخضَل.وهو كناية عن استعمالها الدائم والمستمر.
ولقب
هذا الشاعر بالأعشى ( لضعف بصره إلى حد عمى في آخر عمره). ويسمى "صناجة
العرب"لأنه كان يغنى بشعره.وهو جاهلي أدرك الإسلام إذ توفي في السنة 7ه، ولم
يسلم،ويعد من أصحاب المعلقات بقصيدته:
ما بكاء الكبير بالأطلال
وسؤالي
وما ترد سؤالي
ثانيا: المصافحة. يقال
نازعتُ فلان بَنانه أي صافحته. يقول الراعي النميري وهو من فحول شعراء العصر
الأموي، توفي سنة 90ه واسمه حُصين بن معاوية بن جندل ، وإنما لقب بالراعي لكثرة
وصفه الإبل وكان منحازا للأمويين:
ينازعْننا رخْص البنان كأنما
ينازعْننا
هُدّابَ رَيْطٍ مُعَضّد
فرخص
البنان هي الأصابع الرقيقة، والرّيْطُ هو الثوب اللين الرقيق،والهُدّاب مفرده
هُدْب وهو ما يتدلى من الثوب ،والمعضد الثوب المخطط أو الذي له عَلم في موضع العضد
من لابسه.
ثالثا : تجاذب الخصومة.
قال تميم بن مُقْبِل وهو شاعر مخضرم توفي سنة 37 وقد أسلم:
نازعتُ ألبابها لُبّي بمُقْتصِر
من
الأحاديث حتى زدنني لِينا
والمقصود
نازع لُبي ألبابهن أي عقله وفكره عقلهن وأفكارهن.
ومن
هذا المعنى يستعمل التنازع في سياق الاختلاف أو هو شدته،من النزع أي الأخذ والجذب، أو هو تجاذب القرآن والحجج
وما ينتج عن ذلك من اختلاف. يقول تعالى في الآية 47 من سورة الأنفال: "ولا
تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم"، فقد استعير التجاذب للتعبير عن الاختلاف.
الإشارة
الثالثة:
قوله تعالى "في شيء ": شيء اسم جنس،وهو هنا نكرة موغلة في الإبهام تعني
أي شيء.
الإشارة
الرابعة
: قوله تعالى: "فردوه"استعمال مجازي لأن استعماله الحقيقي يفيد إرجاع
شيء ما إلى صاحبه.
والرد
إلى الرسول – كطاعته- دالان على الرد إلى الله وطاعته قبل ذلك.
الإشارة
الخامسة:
تتعلق بقوله عز وجل: "إن كنتم تومنون"، وهنا شرط يفيد التحريض أو
التحذير.
وذكر
الإيمان في هذا الشرط – مكررا –بعد قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا) يعني : إن
كنتم تومنون حقا وتقومون بواجبات المومنين بالفعل.ذلكم أن الخلاف قد يحدث وهو أمر
طبيعي.
ولكن
اهتداء المومنين إلى الطريقة المثلى لإزالته-بالرجوع إلى الكتاب والسنة-دليل على
مدى ما يجمع الرعية وولاة أمرها من إيمان حق يكون داعيا إلى تبادل النصح والثقة والرغبة في الوصول
إلى الحق.
أستسمحكم بعد هذا يا مولاي لأنتقل إلى القسم الثاني من
هذا الدرس، فأقول: إن الإسلام جاء إلى العرب وإلى البشرية كافة، دينا يدعو إلى
التوحيد وإلى العلم وإلى العقل،بكل ما في هذه المقومات الثلاثة من انعكاسات على
السمو بالنفس،وتطوير الفكر، وتهذيب السلوك، والنهوض بالفرد والمجتمع في نطاق أمة
واحدة راقية تحتضن الإنسانية عامة؛ في إيمان متسامح لا غلو فيه ولا تعصب. يقول
تعالى في الآيات 63-67 من سورة آل عمران:" يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة
سواءٍ بيننا وبينكمُ ألا نعبدَ إلا
الله ولا نشرك َ به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله. فإن تولّوا
فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون. يا أهل الكتاب لِم تُحاجّون في إبراهيم. وما أُنزلت
التوراةُ والانجيل إلا من بعده. أفلا تعقلون. هانْتُم هؤلاء ِ حاججْتم فيما لكم به
علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم. والله يعلم وأنتم لا تعلمون. ما كان إبراهيم
يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما. وما كان من المشركين. إن أولى الناس
بإبراهيم لَلذين اتبعوه وهذا النبيءُ والذين آمنوا والله وليّ المومنين."
لقد تجلى الإسلام في عهد الرسول ص واضحا وصافيا،سواء
فيما يتعلق بقضايا العقيدة، أو فيما يتصل بشؤون التشريع والتنظيم.فلم يكن يتعرض في
هذه الشؤون المتعلقة بنظام المجتمع الإسلامي لما يعرضه للفرقة والانقسام،وتم
الانضباط بالأحكام الشرعية وما تلزم به من واجبات وما يتيح من حقوق.ولم يكن يتحدث
في تلك القضايا عما قد يثير الاضطراب في الفهوم والأذهان من مسائل الصفات وما
إليها مما يتصل بالذات الإلهية التي أثبتت في إطار التنزيه وفق ما جاء في القرآن
الكريم وسنة الرسول الأكرم.
لكن ما الذي حدث؟
لقد حدث أن تعرض المسلمون في سياستهم
وفكرهم لما حاد بهم قليلا أو كثيرا عن الخط الذي عرفوه في عهد رسول الله ص. ويمكن
أن نجمل ذلك في ظاهرتين:
الأولى ترتبط بالسياسة، انطلاقا من المشكل الذي طرأ بعد
وفاة رسول الله ص، ألا وهو مشكل خلافته، لا سيما وأنه ص لم يستخلف أحدا من أصحابه،
وترك للمسلمين أن يجتهدوا ويختاروا النظام الملائم لهم في ضوء المبادىء الأساسية
للحكم الإسلامي وهي:
1. التوحيد
2. العدل
3. الشورى
ومعروف
أن المسلمين اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة، وبايعوا أبا بكر(11-13 ه)، وأن أبا بكرـ
باجتهاده ـ استخلف قبل وفاته عمر بن الخطاب بعهد مكتوب. أما عمر(13 –23) فأدى به
اجتهاده في أمر الخلافة إلى تكوين مجلس شورى مكون من ستة أشخاص هم:علي وعثمان
وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف. وزاد عليهم ابنه عبد الله،
على أن لا يكون له من الأمر شيء، وعلى أن يرجح الجانب الذي يميل إليه، إذا ما
تساوت الأصوات، إن رضوا بذلك؛ وإلا يرجح جانب ابن عوف.
إلا أن حدثا خطيرا وقع لأسباب عدائية خفية،
شعوبية ويهودية ومجوسية، وقاد المسيرة السياسية إلى ما لم تحمد عقباه بعد، ذلكم هو
مقتل ابن الخطاب بطعنة من أبي لؤلؤة، واقتصاص ابنه عبيد الله الذي ضرب الهرمزان
وهو أمير فارسي مسلم، وجفينة وهو نصراني، وقد رآهما يقبلان الخنجر الذي طعن به
أبوه. وزاد ابن عمر فدخل بيت الجاني وقتل ابنته.
بعد مشاورات على مستوى المجلس المعين، تمت
بيعة عثمان ابن عفان(23 –35 ه)الذي واجه في أول توليته قتل ابن الخطاب وما ترتب
عليه من اقتصاص. وحل المشكل بأن حكم بالعفو عن عبيد الله، واعتبر نفسه ولي من قتل،
والتزم بدفع ديتهم من ماله الخاص.
ولكن هذا الحل لم يعجب الذين كانوا غير
راضين عن ابن عفان وسياسته، ومن انضم إليهم من بعض القراء الذين لم يكن لهم دور في
جمع المصحف، فتألبوا ضده، وقامت ثورة تطالبه بالتنازل. ولكنه رفض متمسكا بالخلافة،
معتبرا إياها أمانة مقدسة،فكان أن اقتحم الثوار داره وقتلوه.
وتمت البيعة لابن أبي طالب(35 ـ40 ه) الذي
واجهته منذ البداية مشكلتا إعادة الأمن والنظر في مقتل عثمان. وانتهى ابن أبي طالب
إلى عدم إدانة أحد، فكان أن واجه معارضتين:
الأولى تزعمتها السيدة
عائشة وطلحة والزبير الذي لم يلبث أن انسحب، فاضطر الخليفة إلى محاربتهم في وقعة
الجمل(36 ه).
والثانية قادها معاوية،
فاضطر ابن أبي طالب إلى مواجهته في معركة صفين (37ه)، وهي المعركة التي رفعت فيها
المصاحف في المعسكرين، والتي انتهت بالتحكيم،أي تعيين حكمين للحكم في الخلاف القائم بما في كتاب
الله.
فاختار ابن أبي طالب أبا موسى
الأشعري،واختار معاوية عمروابن العاص. وكتب الحكمان صحيفة غامضة لا تفيد أي شيء
بشأن الخلاف، رغم دقة كتابتها السياسية، واتفقا على عزل علي ومعاوية، ورد أمر
الخلافة إلى المسلمين. وكان الأشعري أول ناطق فعزل صاحبه، وحين جاء دور ابن العاص
عزله كذلك وثبت صاحبه.
وكانت نتيجة هذا التحكيم أن انقسمت الخلافة
شطرين:
أحدهما: تابع لابن أبي
طالب في العراق والحجاز.
والثاني : تابع لمعاوية في
الشام ومصر. وكانت النتيجة كذلك أن ضيع علي بعض أتباعه الذين لم يرضوا بصيغة
التحكيم وما انتهى إليه، وهؤلاء هم الخوارج.
وكانت النتيجة بعد هذا أن زاد الأمر
اضطرابا، مما حدا ببعض المسلمين ـ لعلهم من الخوارج ـ إلى التفكير في وضع حد له
بقتل علي ومعاوية وابن العاص في وقت واحد(17 رمضان 40 ه) إلا أنهم لم يصيبوا إلا
ابن أبي طالب. فخلا الجو لمعاوية، مما دعا شيعة علي إلى القيام، فدفعوا أولا
بالحسن بحجة أن والده أوصى له. إلا أنه سالم معاوية، بعد أن وعده بولاية العهد. ثم
دفعوا بعد موت الحسن ـ أو قتله مسموما ـ سنة 50 بأخيه الحسين الذي كان ذا شخصية
قوية كأبيه، فحاول المواجهة، لا سيما بعد أن توفي معاوية واستتب الأمر لابنه يزيد(60
ـ63 ه). ولكنه ما كاد يدخل أرض العراق حتى لقيه جيش الأمويين بقيادة ابن زياد
فقتله وأصحابه في وقعة كربلاء(61 ه).
وكان بعد هذا أن اتخذت الخلافة أبعادا
جديدة تمثلت في الدولة الأموية التي استتب لها الأمر، ثم العباسية بعدها؛ وتمثلت
كذلك في ظهور أحزاب معارضة لهاتين الدولتين أهمها الخوارج والشيعة.
الثانية تتصل بتطور الفكر
الإسلامي متأثرا ببعض القضايا التي كان يعرضها أصحاب الملل والديانات الأخرى،
كتجسيم اليهود وبعض من أسلم منهم ـإن صدقا أوكذبا كعبد الله بن سبأ ـ للذات
الإلهية، وما ارتبط بها من إسرائيليات، لا سيما ـ بالنسبة لموضوعنا ـ فيما يتعلق
بتقديس الإمام إلى حد تأليهه. ومن ذلك ما كان يثيره المسيحيون ـ كيوحنا الدمشقي ت
127 ه ـ متعلقا بحرية الإنسان ومشكل الجبر والاختيار.
ولعل أبرز رد فعل فكري لمثل هذه القضايا هو ظهور علم الكلام الذي كان
يسعى إلى الدفاع عن العقيدة بالحجج العقلية، مركزا على مسألتين أساسيتين هما:
1. مسألة الصفات.
2. مسألة القضاء
والقدر.
واتخذ
المسلمون من هذا العلم موقفين مختلفين:
1) منهم من أيده، على
اعتبار أن القرآن يدعو إلى الجدل وإلى استعمال العقل، لقوله تعالى في الآية 111 من
سورة البقرة:"قل هاتوا برهانكم"، وكقوله في الآية 125 من سورة
النحل:"وجادلهم بالتي هي أحسن"
2)
ومنهم من رفضه، معتبرا أنه لا حاجة لإثبات العقيدة إلى الاحتجاج العقلي، إذ يكفي
الإيمان بالله والتفويض والتسليم في المسائل العقدية الشائكة. وهؤلاء كانوا بدورهم
يعتمدون على مثل قوله تعالى في الآية 7 من سورة آل عمران: " هو الذي أنزل
عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ
فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تاويله وما يعلم تاويله إلا الله،
والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو
الالباب".
وهؤلاء
الرافضون لعلم الكلام يعتمدون كذلك على مثل هذا الحديث الشريف الذي يقول فيه رسول
الله ص" ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل."
وانقسم المسلمون ـ تحت تأثير هذين الموقفين ـ إلى :
1. و قدريين يومنون
بحرية الإنسان المطلقة، وبأن ما حدث هو من فعل المسلمين لا تدخل فيه للإرادة
الإلهية، أي ليس قضاء ولا قدرا، لأن الله تعالى لا يقدر إلا الأصلح ولا يقضي إلا
بالأحسن. وفي هذا النهج سار معبد بن
خالد الجهني( ق 80 ه)، وتلميذه غيلان بن مسلم الدمشقي(ق105 ه).
2. جبريين يومنون بأن
الإنسان غير حر، وكان منهم جهم بن صفوان(ق127ه) الذي كان يرى أن الإيمان هو
المعرفة بالله، وأن الكفر هو الجهل به تعالى. وكان يرى كذلك أن الفعل لله وحده،
وأن الإنسان إنما ينسب إليه الفعل على المجاز.وكان يرى بعد هذا نفي الصفات، وأن
علم الله محدث، مما دفعه إلى القول بخلق القرآن، أي أنه غير قديم طالما أن صفة
الكلام في نظرهم محدثة.
تحت تأثير هذين العاملين:
1. السياسي من جهة
2. والفكري من جهة
ثانية
3.
كان
توجه المسيرة الإسلامية في خط الخلاف الذي ستُطْرح من خلاله مسألة الحق والباطل،
وانقسام المسلمين فرقا، كل منها ترى أنها على حق وأنها هي الناجية، انطلاقا من
الحديث الذي رواه أحمد في مسنده عن أنس بن مالك أن رسول الله ص قال:"إن بني
إسرائيل تفرقت إحدى وسبعين فرقة فهلكت سبعون فرقة وخلصت فرقة واحدة وإن أمتي ستفترق
على اثنتين وسبعين فرقة فتهلك إحدى وسبعون وتخلص فرقة، قالوا يا رسول الله من تلك
الفرقة قال الجماعة الجماعة".
إذن بدأ الخلاف سياسيا، ولكنه لم يلبث أن
تحول عقديا يعتمد أساليب الجدل التي أفضت إلى التأويل المبالغ فيه، حتى يطابق حالة
معينة أو واقعا مفروضا، فتشعبت طرائق التفكير وتفرقت سبل الاحتجاج. ومن خلال ذلك،
كان ينظر إلى قضية الإيمان والكفر،على أساس من تصور مفهومهما: هل الإيمان مجرد
تصديق بالقلب وإقرار باللسان أم أنه لابد فيه من العمل؟
وعبْر هاته الزاوية، كان ينظر كل طرف سياسي
لإيمان الطرف الآخر:
فالخوارج
ربطوا الإيمان بالعمل، لكن بطريقة حرفية وسطحية، واعتبروا من لم يجمع بينهما مرتكب كبيرة؛ ومرتكبها
كافر مخلد في النار. ومن ثم أقروا خلافة أبي بكر وعمر، وخلافة عثمان في أول عهده،
وكذا خلافة علي قبل التحكيم. وقد أخطأ في نظرهم حين قبل التحكيم، وكفروه من أجل ذلك،
كما كفروا أصحاب الجمل والحكمين ومعاوية والأمويين وكذا العباسيين. وعندهم أن
الإمامة حق لكل مسلم عادل.
أما الشيعة فاتخذوا ـ عدا الزيدية ـ
موقف التخطىء، ثم التكفير من جميع الذين اغتصبوا في نظرهم الخلافة، إذ قال
الإمامية ـ وهم الذين يشكلون إلى
جانب الزيدية أهم فرق الشيعة ـ بإمامة علي بعد النبي ص نصا صريحا، اعتمادا على
أحاديث يسوقونها، كالحديث الذي يروونه عن ابن عباس أن النبي ص قال لأم
سلمة:"اسمعي واشهدي هذا علي أمير المومنين وسيد الوصيين"، وكالحديث الذي
أخرجه ابن حنبل وابن ماجة من طرق متعددة، والذي ورد فيه ـ مع اختلاف في اللفظ من
طرق متعددة ـ:أن النبي ص قال يوم غدير خم بعد العودة من حجة الوداع:" من كنت
مولاه فعلي مولاه اللهم والي من والاه وعاد من عاداه". وهو حديث لا يرى فيه
أهل السنة إلا الإشادة بعلي ومكانته التي لا ينكرها أحد.
والشيعة في هذا يرون أن الإمامة ركن من
الدين، ما كان الرسول ص ليهمله أو يغفله أو يفوضه للعامة، وأن خروج الخلافة عن ابن
أبي طالب كان ظلما من غيره أو تقية من عنده.
ويطلق على الشيعة "الروافض"إذ هي
تسمية في حقيقتها تطلق على الذين رفضوا بيعة الأمويين والعباسيين ، وليس على الذين
رفضوا الرسالة النبوية كما زعم غلاة خصومهم.
وإلى جانب الشيعة والخوارج، ظهر المرجئة
الذين دفعتهم مسالمتهم إلى التزام الحياد، فقالوا بأن مرتكب الكبيرة مومن، وأن
أمره متروك لله، بل إنهم أرجأوا العمل في قضية الإيمان، إذ اعتبروه تصديقا فحسب لا
حاجة فيه إلى العمل. وكان خصومهم ـ لاسيما من المعتزلة ـ يسمون بالمرجئة كل من لا
يرى رأيهم في مرتكب الكبيرة، وكانوا يلقون بهذه السمة على عدد من الفقهاء
والمفسرين والمحدثين من أمثال التابعي سعيد بن جُبير الأسدي(45 ـ95 ه) ومقاتل بن
سليمان الأزدي (ت150 ه)
وظهر المعتزلة الذين اختاروا الحياد
كذلك، وقالوا بأن مرتكب الكبيرة ليس بمومن ولا كافر، ولكنه فاسق؛ ومن ثم فهو في
منزلة بين المنزلتين. واعتبروا كذلك أن أحد الطرفين مخطىء، لكن من غير أن يعينوه.
وكانوا في المسائل الكلامية يؤيدون القدريين الأوائل في القول بحرية الإنسان،
ويؤيدون الجبرية في قضية الصفات، واشتهروا في هذا بالميل إلى التعقل واعتماد هذا
التعقل في النظر إلى الكون وإلى الخالق، لأن هذا النظر لا يمكن أن يكون حسيا ولكن
عن طريق العقل. واشتهر منهم علماء ارتبطت بأسمائهم فرق فرعية، كواصل بن عطاء (80 ـ
130 ه) الذي تنسب إليه الواصلية، وأبي هُذيل العلاف(135 ـ 226 ه)، وإليه تنسب
الهذيلية، وإبراهيم بن سيّار النّظّام(ت 231 ه)، وتنسب إليه النظامية.
وفي وسط هذه الخلافات، ظهر تيار معتدل ينسب
إليه أهل السنة والجماعة. وهي تسمية في مدلولها العام تطلق مقابل الشيعة، وينضوي
تحتها جميع الذين اعترفوا بالخلفاء الراشدين وخلفاء بني أمية وبني العباس.
وتنسحب تسمية أهل السنة والجماعة في
مفهومها الخاص على الذين اهتدوا بسنة الرسول ص، وسلكوا طريق الصحابة والتابعين في
التسليم والتفويض والبعد عن التأويل، ملتزمين كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الأمة.
وسوف يتبلور هذا الاتجاه على يد أبي الحسن
الأشعري(260 ـ324 /330)، وكان معتزليا أول الأمر، ثم لم يلبث أن ترك الاعتزال
معلنا التمسك بالكتاب والسنة وما روي عن الصحابة والتابعين وأيمة الحديث، مع ميل
إلى الإمام أحمد بن حنبل. وقد صاغ العقيدة صياغة عقلية وافقت من كان من أهل السنة
ميالا إلى الجدل العقلي، مع التزام موقف وسط يكشف عن رأيه المعتدل الذي يتجلى في
إثبات الصفات واعتبارها أزلية وزائدة على الذات الإلهية وقائمة بها. كما يتجلى في
ربط أفعال الله بالمشيئة، وجعلها غير قابلة للتعليل. ويتجلى كذلك بالنسبة لحرية الإنسان في القول بأن
الإنسان يكسب أفعاله بقدرة حادثة يخلقها الله له في لحظة إرادة كسب تلك الأفعال.
ويتجلى بعد هذا في القول بأن الإيمان أصل يمثله التصديق، وفرع يمثله العمل، وبأن
الكافر هو من أنكرهما. أما من تهاون في شيء من الفرع فهو مومن عاص أو فاسق سيبقى
في مشيئة الله، وإن عذبه لا يخلده في النار. وهذا ما جعلهم يقولون بالشفاعة التي
يتفضل الله بها على المومنين العصاة. وقد برز في هذا الاتجاه أبو بكر الباقلاني (338
ـ 403 ه)، وعبد الملك الجُوَيْني(419 ـ 478 ه).
في جو هذه الخلافات السياسية والفكرية وتأثرا
بها، وباتساع الأمصار الإسلامية وتشعب القضايا والنوازل، ظهرت اتجاهات فقهية تعتمد
على اجتهادات الصحابة والتابعين، وتنظر في الأحكام وتقعيدها، وتدرس ما يطرأ من
وقائع لإعطائها الأحكام المناسبة لها، مما يمكن أن يعتبر مرحلة في الاجتهاد، عنها
تفرعت المذاهب الفقهية المعروفة. وأبرزها:
1. مذهب أبي حنيفة النعمان بن ثابت (80
ـ 150 ه)،وقد انتشر في كل البلاد التي كانت تحت نفوذ العباسيين، وخاصة في العراق
وما وراء النهر، ينافسه في تركستان وما وراء النهر المذهب الشافعي. ثم استقر في
مصر إلى جانب الشافعي والمالكي والشيعي الإمامي(هذا أيام الفاطميين). وعلى الرغم
من أن المماليك جعلوا القضاء بالمذاهب الأربعة، إلا أن محمدا عليا أعطاه صبغته
الرسمية. ولم يتعد المذهب مصر إلى بلاد المغرب إلا مدة قصيرة في عهد أسد بن
الفرات.
2. مذهب مالك ابن أنس الأصبحي (93
ـ 179 ه)، وكان انتشاره في الحجاز وإن أفل نجمه في بعض الفترات، إلى أن أحياه ابن
فرحون حين تولى قضاء المدينة سنة 793 . ومعروف أنه انتشر كذلك في بعض بلاد الخليج
ومصر، إلى أن نازعه في هذه الأخيرة الشافعي ومذاهب أخرى،ولكنه في العصور المتأخرة
يعتبر إلى جانب الشافعي المذهبين السائدين لا سيما في مجال العبادات.
ولا يخفى أنه انتشر في الأندلس، بعد أن
كانت على مذهب الأوزاعي، ثم في كل الشمال الإفريقي باستثناء بعض الحالات،
كالإباضية في الجزائر والحنفية في تونس.
3. مذهب الشافعي محمد بن إدريس (150
ـ 204)، وقد انتشر في العراق ومصر وفي خراسان وما وراء النهر. وكان له وجود في مصر
إلى جانب المذاهب الأخرى. وحتى حين أعطى العثمانيون الأولوية للحنفي، فقد ظل الناس
موزعين بين المالكية والشافعية. وعرف في الشام أثناء بعض الفترات،وكذا في العراق حيث لم يستطع منافسة الحنفي
، وكذلك في اليمن إلى جانب المذهب الزيدي، وفي إيران إلى جانب المذهب الشيعي
الإمامي.
4. مذهب أحمد بن حنبل (164 ـ 241) لم
يكتب له انتشار كبير بسبب تأخره الزمني، وبسبب بعده عن السلطة مما جعل القضاة لا
يكونون منه، وكذا بسبب تشدده في معاملة الناس خاصة فيما يتعلق بالأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر.وقد تحقق له شيء من التجدد على يد أحمد بن تيمية (661 ـ 728
ه)،ثم على يد محمد بن عبد الوهاب (1115 ـ 1206ه)، مما أتاح له الانتشار في شبه
الجزيرة العربية.
5. مذهب جعفر بن محمد
الباقر
بن علي زين العابدين بن الحسين السبط الملقب ب"الصادق" (80 ـ 184)، سادس
الأيمة الإثني عشر عند الشيعة، ومركزه في إيران. ويطلق عليه الإمامي والاثناعشري
والجعفري.
6. مذهب زيد بن علي بن الحسين بن علي
بن أبي طالب (79 ـ 122 )، وينتشر في اليمن. وهو أقرب الشيعة إلى أهل السنة
والجماعة.
7. مذهب عبد الله بن
إباض
الخارجي (ت 86 ه على الأرجح) ويوجد في عمان وصحراء الجزائر وتونس.
وقد أتيح لهذه المذاهب الفقهية -بشيء من التفاوت ـ أن
تجد صداها في الرأي العام الإسلامي، مما لم يتح لعلم الكلام، وإن حاول الأشعري
بموقفه أن يكون قريبا من الناس؛فاستتب لها الأمر.
إلا أن الاجتهاد الفقهي لم يلبث أن دخل في نطاق ضيق
مرتبط بمذهب معين، وانتهى الأمر إلى التقيد بالآراء المحددة في المذهب؛ إلى أن آل
الأمر إلى الجمود الذي استمر طوال القرون المتأخرة وما زال.
من هنا ـ وأنا أرجو السماح لي يا مولاي بالانتقال إلى
القسم الأخير في الدرس ـ يتبين أنه على أساس المواقف السياسية، وكذا على أساس
الفكر الذي اعتمدته أو أنتجته، تشكلت الفرق الإسلامية من شيعة وخوارج وسنة، ثم على
أساس من الاجتهاد داخل كل مجموعة تكونت مذاهب فرعية، بعضها ذو صبغة عقدية سياسية،
وبعضها ذو طابع فقهي صرف.وهي مجموعات كانت تنظر إلى الشرعية من رؤياها الخاصة، في
مزج بين ما هو ديني وما هو سياسي، بتوفيق تلقائي تارة، وبتأويل متمحن للوصول إلى
هذا المزج تارات كثيرة.
ولعل أحدا لا يحتاج إلى دليل لإثبات أن تلك المواقف وما
نتج عنها من خلافات، كانت بنت وقتها، وكانت متولدة عن أوضاع معينة اتسمت بالتناقض
والصراع، مما لم يعد له مجال في عالم المسلمين المعاصر، إلا من خلال رواسبه
وبقاياه التي لم يعد لها بدورها مبرر وجود إلى حد التحكم في العلاقات بين
المسلمين، وإن بقيت مدونة في صحائف التاريخ.
وما أحوجنا إلى أن نفرق بين ما هو مجرد تاريخ كان خاضعا
لشروطه وظروفه، وبين ما هو من حقائق الدين.هذه واحدة.
وأخرى وهي أن علينا اليوم أن نفرق كما فرق أيمة الأمة
بين ما يتصل بالعقيدة وما يتصل بالأحكام الفقهية.
أما العقيدة، فلا مجال للاختلاف فيها، إذ هي لا تخضع
للاجتهاد، ولا تقبل أن نختلف فيه مصداقا لقوله تعالى عن أهل الحنيفية المرحومين
لابتعادهم عن الاختلاف في هذا الأمر: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا
يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) أي خلق أهل الرحمة غير مختلفين، وخلق
غيرهم مختلفين اختلافا يلازمهم، كما تثبت صيغة الآية الكريمة.
ولا أريد أن أطيل في هذه المسألة وإن كنت أستسمح في إيراد
بعض الأحاديث التي تحث على الجماعة، كالحديث الذي أخرجه الترمذي عن ابن عباس والذي
قال فيه رسول الله ص :"إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة ويد الله مع الجماعة
ومن شد شد في النار). ومثله الحديث الذي رواه أبو داود عن أبي ذر: والذي قال فيه
النبي الكريم ص (من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع رِبْقة الإسلام من عنقه) .
والجماعة لها معنى عام يشمل المسلمين كافة، خاصة من جمعوا كلمتهم على أمير، ولها
معنى خاص يندرج فيه الصحابة رضوان الله عليهم والعلماء المجتهدون السائرون على
نهجهم.
وأما الأحكام الفقهية، ففيها ما يعتبر من الثوابت التي
تعد كالعقيدة لا يجتهد فيها ولا يختلف حولها، وفيها ما يكون معرضا للأحوال
والنوازل الداعية إلى الاجتهاد، وما قد يعرض بسببه من خلاف أساسه الظن والتقدير
اللذان لا يحسمان إلا بالاحتكام لكتاب الله وسنة رسوله ص وتأملهما والاجتهاد في
فهمهما وتأويلهما بسعة أفق ودقة نظر، لاسيما ما كان فيهما من قبيل ظني
الدلالة،وليس من قبيل القطعي والتوقيفي. وهو ما يؤكده قوله تعالى: (فإن تنازعتم في
شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تومنون بالله واليوم الآخر). وهي آية ينبغي أن
تفهم في إطار السياق الذي نقرأ فيه قوله عز وجل( وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول
وأولي الامر منكم)، وقوله سبحانه: ( وما كان لمومن ولا مومنة إذا قضى الله ورسوله
أن يكون لهم الخِيَرة من امرهم)
وعن الخلاف الممكن نتيجة الاجتهاد، نستحضر قول عمر بن
عبد العزيز:"ما أحب أن أصحاب محمد ص لا يختلفون، لأنه لو كان قولا واحدا لكان
الناس في ضيق وأنهم أيمة يقتدى بهم فلو أخذ رجل بقول أحدهم لكان سنة"
كما نستحضر قول القاسم بن محمد:"لقد نفع الله
باختلاف أصحاب النبي ص في أعمالهم، لا يعمل العامل بعمل رجل منهم إلا رأى أنه في
سعة"
ومثل هذا القول ما نقل عن القاضي إسماعيل الذي
قال:"إنما التوسعة في اختلاف أصحاب رسول الله ص توسعة في اجتهاد الرأي. فأما
أن يكون توسعة أن يقول الإنسان بقول واحد منهم من غير أن يكون الحق عنده فيه فلا.
ولكن اختلافهم يدل على أنهم اجتهدوا فاختلفوا"
وهي أقوال واردة عند الشاطبي في الموافقات (م 2 ج 4 ص 90
و 108)حيث ذهب إلى أن الظاهر في مراعاة الخلاف أنها (اعتبار للخلاف. فلذلك نجد
المسائل المتفق عليها لا يراعى فيها غير دليلها فإن كانت مختلفا فيها روعي فيها
قول المخالف وإن كان على خلاف الدليل الراجح عند المالكي فلم يعامل المسائل
المختلف فيها معاملة المتفق عليها)
وحتى بالنسبة لهذا الجانب، فإن إمكان تجاوز الخلاف فيه
وارد.
وعلى سبيل المثال فإن عندنا في المذهب المالكي قاعدة ذات
أهمية قصوى في التقريب بين المذاهب، وهي التي تدعو إلى مراعاة الخلاف وتجاوزه عن
طريق تبادل الأحكام، لاسيما ما كان قوي الدليل في المذهب المخالف.
ولعلنا إن نحن أمعنا النظر في هذه القاعدة، وراعينا
المقاصد واعتبرناها في توجيه الأحكام، بدا لنا إمكان التقريب بين المذاهب، وربما
حدوث الإجماع بعد حصول الخلاف كما يرى معظم الأصوليين.
إن علينا من هذا المنظور، أن نتأمل الإسلام في أصوله وحقائقه،
وأن ننظر إلى مستقبل المسلمين والمصير الذي ينتظرهم وما هم في حاجة إليه.
إنه لا حل ، إن كان المسلمون مومنين حقا، إلا برد الأمر
إلى الله والرسول ـ على حد ما في الآية الكريمة التي انطلقنا منها في هذا الدرس ـ
أي بالرجوع إلى مصادر الوحي، إلى القرآن الكريم وإلى السنة النبوية المطهرة بما
فيها من أقوال وأفعال وتقريرات.
والرجوع إلى هذه المصادر يعني فهمها على النحو البين
الواضح الذي جاءت به، في غير اجترار لما هو غير نافع من العلم الكثير المتداول،
وبدون أي تمحن في التأويل قد يقود إلى التحريف، ثم إلى التعصب، سواء أكان هذا
التعصب لمذهب أو فرقة أو غيرهما، والغلو في ذلك.وهذا لا يتأتى إلا إذا تم تجاوز
مرحلة التفقه الخامل المرتبط بالاتباع والتقليد إلى مرحلة الاجتهاد والتجديد، على
النحو الذي فعل الفقهاء الأيمة الذين وصل بهم علمهم المتين وفهمهم الصحيح للشريعة
وللواقع الذي عاشوا فيه إلى استخلاص مذاهب نحن ملتزمون بها. وهو التزام نحن به
معتزون، مالم نجمد عنده، ولم نسع إلى الانغلاق به وفيه؛ أي إذا نحن فتحنا الأبواب
مشرعة لنقرب بين مواطن الخلاف، ونتأمل قضايا العصر وحل مشكلاته بالنظر في أحكام
هذه المذاهب إن كانت مسعفة، وبالعودة إلى مصادر التشريع مباشرة إن لم نجد في تلك
المذاهب ما يسعف.
وإنه في هذا السياق لا ينبغي لعلماء الأمة وفقهائها أن
ينكمشوا، ظنا بأن قضايا الفقه والعقيدة معزولة عن الواقع العام الذي يعيشه
المسلمون وعن طموحهم لتغيير هذا الواقع.
ذلكم أن المسلمين يبحثون عن مكانهم المتميز الذي فقدوه،
وكان لهم حين كانوا ملتزمين بالدين الذي ارتضاه الله لهم، لتنظيم حياتهم وإسعادهم
في هذه الحياة، وجعلهم قادرين على القيادة والتأثير برسالته؛ ويبحثون عن الحياة
الحرة وعن كرامتهم التي يرونها تداس في كثير من أقطارهم، ويبحثون في النهاية عن
العزة التي أخطأوا إليها الطريق، ناسين أن الله تعالى هو صاحبها ومصدرها. يقول
سبحانه في الآية 26 من سورة آل عمران ( قل اللهم مالك الملك توتي الملك من تشاء
وتنزع الملك ممن تشاء، وتعز من تشاء وتذل من تشاء، بيدك الخير إنك علىكل شيء قدير)
ويقول عز وجل في الآية 8 من سورة المنافقون:" ولله العزة ولرسوله
وللمومنين".
ولا عزة للمسلمين إلا بهذا الإسلام الصافي. وصدق
عمر:"نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فمتى أردنا العزة بغير الله أذلنا
الله."
إن
المسلمين اليوم وفي نطاق بحثهم عن العزة يعانون مشاكل سياسية واقتصادية واجتماعية
وفكرية ونفسية.
وإن في الإسلام قيما خالدة لا تبلى، توصل إلى حل هذه
المشاكل وإلى تلك العزة؛ بها تكون الحياة الحق للأفراد والجماعات على مدى العصور
والأزمان، ليس فقط بالنسبة للمسلمين، ولكن بالنسبة للبشرية جمعاء، وهي تقاسي
وتتخبط.
ويكفي
أن نذكر:
v الإيمان بالله
v التقوى
v العدل
v الإحسان
v الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر
v التعارف
v الأخوة والتواد
والتراحم
v التسامح
وما إلى هذه وتلك من قيم الخير التي بها يكون المسلمون
أمة، بل يكونون خير أمة.
ونقرأ قول الله تعالى في الآية 90 من سورة النحل:"إن
الله يامر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي
يعظكم لعلكم تَذّكرون" وقوله عز وجل في الآية 10 من سورة الحجرات:"إنما
المومنون إخوة" وقوله سبحانه في الآية 13 من السورة نفسها:"يا أيها
الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند
الله أتقاكم" وقوله جلت قدرته في الآية 110 من سورة آل عمران:"كنتم خير
أمة أخرجت للناس تامرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتومنون بالله"ونقرأ قوله
تعالى في الآيات 103 ـ 105 من السورة نفسها:"واعتصموا بحبل الله جميعا ولا
تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته
إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم ءاياته لعلكم
تهتدون ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويامرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك
هم المفلحون ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك
لهم عذاب عظيم"والآيات في هذا كثيرة ومعروفة، ولكن من يعمل بها؟ بل من يقوى
على العمل بها؟ أو يقدر على التصدي انطلاقا منها لتنبيه المسلمين من غفلتهم
وانتزاعهم من خلافاتهم وتوجيه مسيرتهم نحو الخط الصحيح الكفيل بتغيير واقعهم
والوصول بهم إلى حال أفضل؟
إنه إذا كان المسلمون ـ على مر العصور ـ قد عاشوا منظومة
الخلاف أو عايشوها بالأسلوب الذي حافظوا به على الحد الأساسي من العقيدة، فإنهم في
ظل الأوضاع المتأزمة التي تواجههم بتحديات كثيرة داخلية وخارجية، مطالبون بأن
يطووا صحائف هذه المنظومة، وينظروا إلى أنفسهم و غيرهم من زاوية أكثر قدرة على جمع
الشمل وتوحيد الكلمة. ولعل ذلك - إن تم ـ أن يكون منطلقا فعليا لتجديد الفكر
الإسلامي وتحديثه في أفق المستقبل.
وإنه لأمر صعب ومتشعب يحتاج أن تراعى فيه ثلاث جهات أو
ثلاثة محاور:
1
ـ المجتمع
2
ـ المعرفة
3
ـ الدولة
أما المجتمع الإسلامي، فهو اليوم مستعد بعد أن طالت
معاناته التي أدرك بوعيه أن في طليعة أسبابها الفرقة.
وأما المعرفة، فلا شك أنها أصبحت متاحة بحكم التواصل
الفكري وتعدد وسائل هذا التواصل وأساليبه.
وتبقى الدولة، وهي مثار إشكال كبير ليس من السهل حله في
ظل الأوضاع الراهنة، ومع ذلك فلعل الأمر
بجميع جهاته ومحاوره أن يتحقق على مراحل، وربما اقتضى في مرحلة أولى أن
تقام مؤسسة فكرية تكون قادرة على لم الشتات المتفرق، سواء على مستوى العقيدة أو
الفقه، ذلكم الشتات الذي زاد تمزقا حين ارتبطت به أنظمة سياسية أو هو ارتبط بها.
ويكون من مهمة هذه المؤسسة أن تصل إلى مفاهيم واستنباطات
مشتركة بين جميع المسلمين، تؤلف بينهم وتوحد موقفهم،في محاولة للتوفيق بين حقائق
الدين النابعة من القرآن والسنة وبين مختلف النظم الاجتماعية السائدة في بلاد
الإسلام وما يترتب عليها من سلوك؛ مما يفرض وجود آليات للانطلاق، على أساس من
مرتكزات إسلامية متينة. ويفرض كذلك إبداع نماذج لذلك تكون مقنعة. ثم هو يفرض قبل
هذا وبعد وجود الرائد القدوة.
وإنها لمستلزمات تبدو بعيدة المنال، ويبدو تحقيقها مهمة
شاقة وشائكة، وربما رأى البعض استحالتها، ولكن بعيدا عن كل مجاملة، أنتم بعلو
مقامكم فوقها مهما تكن بليغة صادقة، وبعيدا عن أي تزلف أنتم بسمو فكركم تمجونه ولم
تُعَودوا عليه، فإنكم يا مولاي من أهلكم الله لهذه المهمة، إذ أنتم صدر بين ولاة
أمر المسلمين : حكامهم وعلمائهم. وأنتم واسطة عقد الأشراف العلويين وسبط رسول الله
الأمين، وعلى سنته في طليعة المدافعين، تقودون شعبا كشف عن حبه لآل البيت المطهرين
منذ احتضن المولى إدريس وما زال، في توفيق مثالي وعملي بين سنيته وتشيعه، ولسان
حاله يردد قول الشافعي:
إن كان
رفضا حب آل محمد
فليشهد الثقلان أني رافض
و الروافض ـ كما سبق يا مولاي ـ مصطلح يطلق على الشيعة
كافة، وإن كانوا يشكلون جماعة من الزيدية خرجت على زيد مغالية في موقفها من أبي
بكر وعمر.
لذا، فإنه ليس غريبا أن يؤول إليكم هذا الأمر.
وقد صدرت منكم مبادرات عديدة في هذا المجال تكفي الإشارة
منها إلى دعوتكم للتقريب بين السنة والشيعة، وكنتم قد أعلنتم عنها في الكلمة
السامية التي ألقيتموها بمناسبة استقبال السادة العلماء المشاركين في الدورة
الأولى للجامعة الصيفية للصحوة الإسلامية زوال يوم الثلاثاء 13 صفر 1411 ه الموافق
4 شتنبر 1990 م . وهو تقريب تتابعونه وترعونه وتوجهونه.
وقد زدتم يا مولاي فدعوتم في القمة الإسلامية التي
انعقدت بالدار البيضاء أيام 10ـ 11 ـ 12 ـ رجب 1415 ه الموافق 13 ـ 14 ـ15 دسمبر
1994 إلى إنشاء "هيئة عليا تصبح مرجعية للتعريف بأحكام الإسلام، بعيدا عن كل
خلط أو التباس أو تأويل مشبوه" على أن لا"تمس هذه الهيئة بتنوع الهويات
والخصوصيات لأن وحدة الإسلام تغنى بهذا النوع المرغوب فيه من التنوعات".
نرجو الله أن يحقق على يدكم الكريمة هذا الأمل الذي
يتطلع إليه جميع المومنين الصادقين الساعين إلى أن يستعيد المسلمون وحدتهم القوية
ومكانتهم المجيدة.
أمد الله في عمركم ، ومتعكم بالصحة والعافية، وأدام
عليكم حفظه وعنايته ورعايته، وأبقاكم قائدا رائدا مشدودا أزركم بإجماع الأمة
حولكم، وأقر عينكم بولي عهدكم الأمجد سمو الأمير سيدي محمد وصنوه السعيد سمو
الأمير مولاي رشيد وجميع آل بيتكم الأطهار.
ورحم الله والدكم المنعم مولانا محمدا الخامس وأجزل له
الأجر والثواب لقاء ما قدم للوطن والدين.
آمين.
والختم من مولانا أمير المومنين.
عباس الجراري.