دور علماء الصحراء المغربية وأدبائها

 

في تثبيت الوحدة الوطنية

 

 

 

 

 

 

 

 

 

عرض تمهيدي قدم – مرتجلاً –

في افتتاح الندوة التي عقدتها أكاديمية المملكة المغربية

حول "ثقافة الصحراء: مقوماتها المغربية وخصوصياتها"

يومي 26-27 ذي الحجة 1422هـ الموافق 11-12 مارس 2002م

وقد نشرت أعمالها ضمن سلسلة "الندوات".

 

لسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين

والصلاة والسلام على سيد المرسلين

 

السيد أمين السر الدائم

السيد مدير الجلسات

الزملاء الكرام والإخوة الأعزاء

حضرات السيدات والسادة

 

 

        يسعدني أن أشارك في هذه الندوة القيمة التي تعقدها لجنة القيم الروحية والفكرية بأكاديمية المملكة المغربية لتناول موضوع يكتسي أهمية خاصة، وهو موضوع الصحراء. وعلى الرغم من أن قضية الصحراء منتهية بالنسبة للمغرب والمغاربة، لأننا في أرضنا ولأننا لم نعد في حاجة إلى أن نثبت مغربيتها، فإن الظروف الطارئة التي تواجه المغرب وتريد أن تتحدى شعور المغاربة، تفرض علينا أن نظل معبئين لمواجهة هذه التحديات.

 

      والأكاديمية إذ تنظم ندوة عن الثقافة في الصحراء، فانطلاقاً من أن الثقافة تعتبر مقوماً أساسياً في هُوية كل شعب وكل أمة. وحين نتحدث عن الثفافة، نتحدث عن أشياء كثيرة، لكنني هنا وفي هذا العرض، لن أتحدث إلا عن جانب من الثقافة المدرسية وفق ما يبلوره دور العلماء في تثبيت الوحدة، عبر التواصل الثقافي الذي لم ينقطع قط بين المغرب وأقاليمه الجنوبية من القديم إلى الآن.

 

      الموضوع واسع، وسيغنيه الإخوة المشاركون بعروضهم، وسوف أكتفي بإلقاء بعض الأضواء على مظاهر من هذا التواصل.

 

      كمظهر أول يلفت نظرنا التصريح بالانتماء إلى المغرب. نجد هذا في تراجم علماء الصحراء الذين يذكرون في نسبهم أنهم مغاربة. وأكتفي بمثال واحد أو مثالين: "حرمة بن عبد الجليل بن القاضي العلوي المغربي". هكذا يؤرخ له الولاتي في "فتح الشكور". ومثله عالم آخر هو عبد الله البوحسني الذي يشار في تسميته إلى أنه "المغربي". كذلك عندنا عدد من الشناقطة ينسبون أنفسهم للمغرب. يقول التجاني بن بابا أحمد في "منية المريد":

            قال ابن بابا العلوي نسبه            المغربي المالكي مذهبه

 

      وهكذا أمثلة كثيرة لعلماء يذكرون في نسبهم ويفخرون بأن ينسبوا إلى المغرب. الأمثلة كما قلت متعددة ولا أريد أن أطيل بها، ولكن أنتقل إلى جانب آخر من جوانب هذا التواصل بين الشمال والجنوب عبر الثقافة، فأقف عند عمق الوحدة في البعدين الديني والفكري.

 

      هناك وحدة التوجه الديني والمذهبي عبر العقيدة وعبر المذهب سواء في الفقه أو في التصوف. نحن نعرف بالنسبة للمغاربة أن العقيدة أشعرية، وأن المذهب مالكي، وأن التصوف سني على طريقة الجنيد. هذه العناصر الثلاثة نجدها متبادلة ومتداولة عند علماء الصحراء وعند المتصوفة منهم ورجال الفقه والعقيدة. يتجلى ذلك من خلال المتون التي كانت تدرس وما زالت تدرس في الشمال وفي الجنوب. إذا نحن استعرضنا ما كان يدرسه الطلبة الصحراويون وفقهاء الصحراء، نجد أنها هي نفسها التي كانت وما زالت موجودة عندنا: متن ابن عاشر، وشرح ميَّارَة، و "الشفا" لعياض،      و "دلائل الخيرات"، و "حكم" ابن عطاء الله، و "إضاءة الدجنة" للمقري، وحتى خارج الفقه والتصوف والعقيدة فإن المتون هي هي، كما في النحو وفي اللغة والعروض، إذ نجد "الأجرومية" و "شرح الألفية" للمكودي، و شرح السبتي على الخزرجية ألخ ...

 

      بل إن علماء الصحراء لا يكتفون بتدارس هذه المتون، ولكن يشرحونها اهتماماً منهم بها. ولا أريد أن أطيل بذكر العلماء الصحراويين الذين شرحوا مؤلفات مغربية في هذا المجال. ويكفي التذكير ببعض الأسماء: الشريف محمد بن الإمام الحسني الإدريسي المتوفى سنة ثمان ومائتين وألف للهجرة (1208هـ) يضع شرح "البسط والتعريف في علم التصريف" للمكودي ؛ عبد الله البوحسني يشرح "إضاءة الدجنة في عقائد السنة" للمقري ؛ ابن الحاج لمين التواتي يشرح "نظم المقنع" للمرغيتي. وهكذا نجد علماء الصحراء يقفون عند هذه المتون التي ألفها المغاربة ويشرحونها ؛ وكذلك بالنسبة للتصوف، يكفي أن نقف عند ما ألفه سيدي العربي بن السايح المتوفى سنة تسع وثلاثمائة وألف للهجرة (1309هـ) أذ وضع على منظومة "منية المريد" للطالب العلوي الشنقيطي شرحاً هو المعروف بـ"منية المستفيد من منية المريد".

 

      جانب مهم آخر في هذا الارتباط هو جانب الطرق الصوفية. يكفيني هنا أن أشير إلى بعض الزوايا التي أقيمت في الصحراء، والتي كانت صلة وصل بين مثيلاتها في الشمال. تذكر الزاوية البكائية المنسوبة لسيدي عمرو ابن الشيخ سيدي أحمد البكاي المتوفى سنة ستين وتسعمائة للهجرة. لها مرجع في ملازمته للشيخ عبد الكريم المغيلي الذي كان معاصراً له وأخذ عنه القادرية. كذلك تذكر الزاوية الفاضلية المنسوبة للشيخ محمد فاضل بن مامين، وهي قادرية ينسب أخذها للشيخ زروق عن البعض وللشيخ الثعالبي عند غيره. ولا أريد أن أعدد أسماء هذه الشخصيات التي كانت في نطاق هذه الزوايا تركز الوحدة. ولكن يكفيني أن أشير إلى الزوايا التيجانية بمختلف طوائفها، ولا سيما الحافظية المنسوبة لمحمد الحافظي العلوي المتوفى في منتصف القرن الثالث عشر للهجرة في أدرار، وترجع إلى الشيخ أحمد التيجاني مباشرة وإلى سيدي العربي بن السايح.

 

      ثم إن هناك زوايا أخرى متقلصة النفوذ بالنسبة لغيرها، مثل الناصرية المنسوبة للشيخ محمد بن ناصر الدرعي المتوفى سنة ست وثلاثين وألف للهجرة، إذ نجد لها نفوذاً عن طريق مجموعة من العلماء الذين زاروا تامكروت أو نالوا إجازات شيوخها. وهي كلها تدل على هذا الترابط وهذا التواصل الذي كان بين المتصوفة في الجنوب وبين أقطاب التصوف في الشمال.

 

      إذا أردنا أن ننظر بعد هذا في بعض المظاهر التي تبرز هذا التواصل بين علماء الشمال وعلماء الجنوب، يصادفنا في البداية بعض العلماء الصحراويين الذين أقاموا في الشمال. يذكر من بينهم محمد محمود البيضاوي الشنقيطي العالم الكبير الذي هاجر إلى مراكش وكان يُدرس بها، توفي سنة تسع وأربعين وثلاثمائة وألف هجرية. أنا أتعمد في بعض الأمثلة أن أشير إلى التواريخ، لأنها تدل على الصلات القديمة وليست الصلات الحديثة كما قد يظن البعض. تذكر أخته خديجة بنت البيضاوي أيضاً، هاجرت إلى مراكش واشتغلت بالتدريس، وكانت عالمة مستحضرة للسيرة وللغة العربية والنحو. وهي والدة الأديب العالم محمد البيضاوي الشنقيطي الذي كان له حضور قوي في الشمال، حيث أقام في تطوان وطنجة والرباط، وتولى مناصب، وكانت له مساهمات في التدريس وفي التاليف، وهو شاعر من كبار شعراء المغرب، وقد خصه المتحدث إليكم ببحث خاص سينشر قريباً إن شاء الله.(1) وكانت وفاته بتاريخ حادي عشر محرم سنة خمس وستين وثلاثمائة وألف للهجرة الموافق دجنبر عام خمسة وأربعين وتسعمائة وألف للميلاد.

 

      يذكر كذلك من الذين أقاموا في الشمال محمد بابا الصحراوي المتوفى سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة وألف للهجرة، فقد استقر سنين عديدة في إلْـغ في سوس حتى صار كأحدهم، كما يقول صاحب "المعسول" المختار السوسي رحمه الله. كما يذكر محمد سالم الصحراوي، والشيخ سيديا بن الشيخ سيدي أحمد ولد الديماني، وماء العينين بن العتيق، واللائحة طويلة بأسماء العلماء الصحراويين الذين أقاموا في الشمال، وكان لهم حضور قوي في التدريس وفي الوظيف، وبالتالي في تمتين الروابط.

 

        كذلك تذكر الوفود الرسمية التي كانت تتبادل الزيارات بين الشمال والجنوب، سواء من هذا الاتجاه أو ذاك. وتكفي الإشارة إلى الوفد الذي كان قد زار الساقية الحمراء في عهد المولى عبد العزيز. وكان الهدف من هذه الرحلة هو استخلاص طرفاية من الإنجليز. وعندنا نصوص شعرية تدل على الترحيب الذي لقيه هذا الوفد، وكان يتكون من خمسة أفراد. ويحضرني هنا مطلع قصيدة قالها العلامة إبراهيم البواري يقول فيه:

            أهلاً بهم من خَمْسَة أعْلام      بل خمسة كقواعد الإسلام

 

      ولا بد في هذه المظاهر أن نذكر اتصال علماء الصحراء وأدبائها بملوك المغرب وأمرائه، وهي ظاهرة نسجلها منذ العصر الموحدي في القرن

 

 

_________________________

(1) هو المتمثل في الدرس المنشور في هذا الكتاب.

السادس الهجري. فعندنا الشاعر أبو إسحاق بن يعقوب الكانمي، كان قد اتصل بالمنصور الموحدي، ومدحه بقصيدة أذكر منها هذين البيتين:

            أزال حجابَه عني وعيني            تراه من المهابة في حجاب

            وقربني تفـضلـه ولكن       بعدت مهابة عند اقترابـي

 

      كذلك يذكر، ونحن نطوي المراحل، الشاعر عبد الله بن الحاج إبراهيم العلوي، اتصل بالخليفة سيدي محمد بن مولاي عبد الله، وكان بينهما تبادل كتب وغير ذلك. كما يذكر الشاعر محمد المجيدري ابن حبيب الله الذي كانت له حظوة عند السلطان سيدي محمد بن عبد الله، وكان يَدرس ويُدرس كذلك في فاس. يذكر أيضا عبد الله العلوي المعروف بابن رازكة الشاعر الكبير، توفي في حدود الثلاثين ومائتين وألف للهجرة. كان من خاصة محمد العالم وله قصائد كثيرة فيه وفي مكناس. ومثله المختار ابن الهيبة الأبيري الذي كان كاتباً للسلطان المولى عبد الرحمان، ومحمد بن سيدي محمد حفيد بن رازكة الذي سبقت الإشارة إليه، فهو أيضاً كان متصلا بالمولى عبد الرحمن، وكانت له فيه مدائح كثيرة. لا بأس في هذا الاستعراض أن أشير إلى الشاعر معاوية بن الشد التنْدغي، إذ له قصائد في المولى اليزيد ابن سيدي محمد بن عبد الله، وأن أشير كذلك إلى الأمين بن محمد المختار الديماني الذي له قصائد في مدح المولى عبد الحفيظ، والنماذج كثيرة. هذا إلى جانب الأدباء والشعراء الذين كانوا يكتبون نصوصاً ويبدعون قصائد في مدح بعض أشياخ الطرق، ولا سيما في سيدي أحمد التيجاني وسيدي العربي بن السايح. وهذا عنصر مهم في التواصل، متمثل في الذين سجلوا هذا الارتباط، وهم شعراء كثيرون يكفي أن أشير منهم إلى محمد الحسن بن عبد الجليل العلوي (في القرن الثالث عشر)، ومحمد العلوي أيضاً في نفس القرن، وكما يذكر الشاعر محمد فال ولد ابَّاه بن بابا الذي هو والد صديقنا الأستاذ المختار ولد ابّاه.

      هذا، وإن من المظاهر التي لا بد من تسجيلها، والتي تثبت هذا التواصل الذي كان بين الشمال والجنوب، أن ملوك المغرب كانوا يعنون بطبع إنتاج علماء الصحراء منذ دخلت المطبعة في متنصف القرن التاسع عشر الميلادي. والكتب التي طبعت لعلماء الصحراء هي أكثر من أن يشار إليها، ويكفي أنه طبعت كتب كثيرة لأحمد بابا التمبوكتي، والمختار الجكني، وعبد القادر الشنقيطي، ومحمد الصغير الشنقيطي، ومحمد النابغة الشنقيطي، ومحمد فال الديماني، وعبد الله بن إبراهيم العلوي الشنقيطي...إلخ. أما ما طبع للشيخ ماء العينين ولأفراد أسرته، فهو أكثر من أن يعد أو أن يستعرض في هذه العجالة.

 

      ودائماً في نطاق هذا التواصل، كان الأدباء والشعراء المغاربة في الشمال يتوجهون بمدائحهم إلى بعض الشخصيات الصحراوية، ولا سيما ماء العينين. فكثيرون هم شعراء الشمال الذين مدحوا الشيخ ماء العينين، كالطاهر الإفراني، وأحمد بن المواز، وعبد الرحمن بن زيدان، وأحمد بن المامون البلغيثي، وأحمد سكيرج، وعبد الله القباج. ومدائحهم موجودة في دواوينهم وفي بعض المصادر، لا سيما في "الأبحر المعينية" الذي جمعه محمد بن ماء العينين والذي حققه زميلنا الأستاذ الدكتور أحمد مفدي.

 

      من المظاهر التي أود الإشارة إليها كذلك، الرسائل التي كانت تتبادل، وخاصة تلكم التي كان يوجهها علماء الصحراء إلى ملوك المغرب. وهي رسائل كثيرة لا مجال لحصرها، يكفي التذكير ببعضها، مثلاً رسالة الشيخ ماء العينين إلى المولى عبد العزيز يطمئنه فيها على أحوال الصحراء ويبلغه ولاء قبائلها.

 

      بمناسبة الحديث عن الولاء، لاحظتم لا شك أني في إطار موضوع الثقافة، لم أتحدث عن جانب مهم وأساسي، وهو جانب البيعات التي كانت ترفع إلى ملوك الدولة. فقد اعتبرته من المفروغ منه ومما يدخل في الإطار السياسي الذي قد يتناوله بعض الزملاء في عروضهم.

 

      في موضوع الرسائل كذلك، تذكر رسالة من الشيخ ماء العينين إلى المولى عبد العزيز، يطلب منه إمداد المجاهدين الصحراويين، لمواجهة تحرك القوات الفرنسية نحو أدرار. ويطلب منه أن يستخلف نائباً عنه لقيادة الجهاد في الأقاليم الصحراوية. الرسائل كثيرة من هذا النوع، ومثلها الرسائل الصوفية وكذلك الرسائل الإخوانية. ويكفيني هنا أن أشير إلى الدراسة الهامة التي أنجزها زميلنا الأستاذ الدكتور محمد الظريف، فأطروحته عن التصوف والرسائل التي تدخل في هذا الإطار كثيرة، ويمكن الرجوع إليها في كتابة المطبوع.

 

      من المظاهر التواصلية التي أريد الإشارة إليها، تبادل الإجازات العلمية بين علماء الشمال والصحراء. فهناك العلماء الذين كانوا يعطون إجازات أو يتلقون إجازات، وهناك الذين كانوا يتدبَّجون، أي يتبادلون الإجازات فيما بينهم. وتكفي الإشارة إلى بعض الإجازات المبكرة: محمد بن محمد بن أبي بكر التواتي (المتوفى سنة عشر وألف للهجرة، أي في أوائل القرن الحادي عشر)، وأحمد بن القاضي تبادلا الإجازة بينهما. والتواتي هذا كان مبرزاً في الفقه وفي الحديث. كذلك يشار إلى أسماء أخرى، كسيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم العلوي الذي أقام في فاس، وتلقى على البناني محشي عبد الباقي، وتلقى البناني عنه أيضاً. ويشار كذلك إلى إجازة محمد سداتي الكنتي لمحمد الأماني السوسي. وهكذا تبدو اللائحة طويلة.

      أستسمحكم في سياق استعراض هذه المظاهر أن أشير إلى تبادل الأحاجي وتبادل الألغاز، وهذا باب معروف في الأدب العربي. وتكفي الإشارة هنا إلى عبد الله العلوي المعروف بابن رازكة – المشار إليه سابقاً – فقد وجه إلى علماء فاس وإلى عالم بالذات وهو ابن زكري، وجه له لغزاً بأبيات في قوله تعالى من سورة يوسف: فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه، لماذا لم تقل الآية: من وعائه ؟ للتمثيل أقرأ جزءاً منه إذ يقول:

      أسائلكم ما سـر إظهـار ربنـا     تبارك مجداً: من وعاء أخيه ؟

      فلم يأت عنه: منه، أو من وعائه     الأمر دقيـق جـل ثم يخيـه

 

      أجاب على هذا اللغز مجموعة منهم محمد بن سعيد اليدالي الديماني الذي يقول:

      فلو قال فرضاً ربنا: من وعائه      فذلكـم بعد التفكـر فيـه

      يؤدي إلى عود الضمير ليوسف            فيفسـد معناه  لمختبريـه

 

      كذلك إلى جانب تبادل الألغاز، كان هناك تبادل الفتاوى في الفقه وفي غيره. وعندي أمثلة كثيرة لا أريد أن أطيل بها، على نحو ما وقع في القرن العاشر بين أبي محمد عبد الله العصنوني المتوفى عام سبعة وعشرين وتسعمائة، ومحمد بن عبد الكريم المغيلي المتوفى سنة تسع وتسعمائة حول نقض ذمة يهود توات.

 

      ولعلنا ألا ننسى في هذه المظاهر التواصلية، تبادل الإخوانيات بين الشعراء في المناسبات. فمثلا ابن رازكة - وهو علم من الأعلام لا يمكن أن نتحدث عن التواصل دون أن يكون حاضراً بواجهات متعددة - يتحدث عن جلسة مع بعض علماء أهل مراكش وما كان فيها من مساجلات، وأيضاً محمد البيضاوي الشنقيطي الذي أقام هنا في الرباط وله مساجلات مع عدد من شعراء الفترة.

 

      ثم إن مما يثبت كذلك هذه الحركة التواصلية، ما كان بين الأدباء والشعراء والملوك العلويين. يكفي أن أشير إشارة لها دلالتها متمثلة في القصيدة التي قالها محمد البيضاوي الشنقيطي في رثاء المولى يوسف ومدح المغفور له محمد الخامس، إذ هي في نفس الوقت رثاء ومدح. وأنا شخصياً في بعض الدراسات اعتبرت أنها أول قصيدة شعرية قيلت في محمد الخامس رحمه الله، ونعرف أهمية عيد العرش وأهمية ما قيل بمناسبته في عهد الحماية. ويكفي أن أقرأ مطلع هذه القصيدة:

            ذهبَ الإمام أبو المحاسن سيّداً       ومحمدّ كُفؤ الإمام السيد

 

      أما بعد هذه المرحلة، فكثيرون هم الشعراء الصحراويون الذين قالوا قصائد في المغفور له محمد الخامس، وفي المغفور له الحسن الثاني، ثم في جلالة الملك المنصور بالله سيدي محمد السادس. والنماذج كثيرة والدواوين متعددة وبعضها منشور. ولا أريد أن أشير إلى الأسماء حتى لا أكون مقصراً، ولكن معنا حول هذه المائدة بعض الإخوة الذين قالوا قصائد تؤكد كلها هذا التواصل وتثبت الوحدة.

 

      وفي ختام هذا العرض التمهيدي، ونحن سنستمع إلى عروض كثيرة في موضوع الثقافة وأهميتها بالنسبة لتثبيت الوحدة، لا بد أن أذكِّر - ونحن جميعاً نعرف هذا - أن العنصر الذي كان حاسماً لدا محكمة العدل الدولية في لهاي، وهي تنظر في القضية وفي تبعية الصحراء للشمال، كان هو المتمثل في روابط البيعة والصلات المذهبية، إذ لا يخفى أن السؤال الذي طرح: هل أهل الصحراء منتمون إلى نفس المذهب الذي عليه أهل الشمال ؟ وحين تبين للقضاة في المحكمة أن المذهب المالكي هو الذي يجمع بين الشمال وبين الجنوب، إضافة إلى روابط البيعة، كان الحكم الذي نعرف جميعاً. ولهذا فأهمية الثقافة واضحة في تأكيد الوحدة وفي تثبيتها من خلال مختلف المظاهر، هذه المظاهر التي مررت عليها مر الكرام، والتي ستغنيها لا شك العروض التي سيقدمها الزملاء الأفاضل. وما أحوجنا إلى أن نستحضرها الآن في هذه المرحلة وأن نعبئ بها، لأننا في حاجة إلى تعبئة دائمة، طالما أن التحديات مستمرة.

 

      هذه بعض المظاهر التي تثبت التواصل الذي كان بين الشمال والجنوب عبر الثقافة المدرسية، ولها مثيلاتها في الثقافة الشعبية، من خلال الأمثال والأحاجي والحكايات والعادات والتقاليد، مما لا شك سيتعرض له مشاركون آخرون في هذه الندوة.

 

      أشكر لكم حسن إنصاتكم.

      والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.